منذ تأسيسها في عام 1947، تتأرجح باكستان بين تطلعات المجتمع المدني المستمرة لحرية الصحافة والواقع السياسي الذي تبسط فيه النخبة العسكرية سيطرة واسعة على وسائل الإعلام.
المشهد الإعلامي
أصبح المشهد الإعلامي يتسم بتنوع كبير منذ نهاية احتكار الدولة للقطاع في 2002، حيث باتت باكستان تزخر اليوم بنحو مائة قناة تلفزيونية وأكثر من 200 محطة إذاعية، وهي المنابر التي تلعب دوراً رئيسياً في نشر المعلومات للسكان الذين يعانون من مستويات منخفضة نسبياً من الإلمام بالقراءة والكتابة (حوالي 60%). هذا وتصدر العديد من الصحف اليومية والمنشورات الدورية بالأردية والإنجليزية ومختلف اللغات المحلية، علماً أن الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية، والمخصصة إلى حد ما للنخبة التي تعيش في المدن، معروفة تقليدياً بهامش أكبر من الاستقلالية، علماً أنها بمثابة الواجهة التي تتزين بها المجموعتان الإعلاميتان الرئيسيتان في البلاد. من جهتها، فإن وسائل الإعلام الإلكترونية آخذة في الازدهار.
السياق السياسي
رغم ما شهدته البلاد من تناوب سياسي، لا يزال النظام التقليدي متجذراً: فبغض النظر عن التوجه الأيديولوجي، فإن الأحزاب السياسية تدعم حرية الصحافة وتدافع عنها عندما تكون في المعارضة، لكنها تصبح عاجزة عن ذلك بمجرد وصولها إلى السلطة، وذلك في ظل السيطرة التي يفرضها الجيش على القضايا الحساسة في البلاد. هذا وتسيطر الحكومة بشكل مباشر على الهيئات التنظيمية لقطاع الإعلام، والتي تميل بشكل منهجي إلى الدفاع عن مواقف السلطة التنفيذية على حساب حماية حق المواطنين في الوصول إلى المعلومات. ومع إحكام الجيش قبضته على المؤسسات المدنية، أصبح موضوع تدخل العسكر والاستخبارات في شؤون السياسة موضوعاً محظوراً على الصحفيين.
الإطار القانوني
تحت ذريعة وقاية الصحافة، يُستغل القانون الباكستاني لفرض الرقابة على أي انتقاد للحكومة والجيش. ذلك أن هيئة تنظيم وسائل الإعلام الإلكترونية، التي أُنشئت في 2002، تهتم أكثر بالمحتوى المنشور في وسائل الإعلام من تنظيم القطاع وتقنينه، في حين أن قانون منع الجرائم الإلكترونية، الذي تم إقراره في 2016، فهو يعمل على تقييد حرية التعبير على الإنترنت أكثر من الحد من الجرائم الإلكترونية. أما قانون حماية الصحفيين والفاعلين الإعلاميين، الذي تم التصويت عليه عام 2021، فإنه يجعل هذه الحماية مشروطة بتبني "سلوك" معين. وفي ظل هذه النصوص القائمة على صياغات غامضة ومفاهيم فضفاضة، يجد الصحفيون الذين يتجاوزون الخطوط الضمنية التي تمليها السلطات أنفسهم عرضة لعقوبات إدارية وجنائية قاسية – قد تصل إلى ثلاث سنوات سجناً في حال الحكم عليهم بنشر "الفتنة".
السياق الاقتصادي
قد تبدو وسائل الإعلام الخاصة مستقلة في ظاهرها، لكنها في الواقع تعتمد بشكل كبير على الإعلانات سواء من الشركات أو من مؤسسات الدولة، لضمان تمويلها، علماً أن هذا الوضع ينطبق خاصة على المنابر الإعلامية المحلية. ونتيجة لذلك، يمكن لوزارة الإعلام، والمديرية المعنية بالقطاع على مستوى كل محافظة، ابتزاز وسائل الإعلام من خلال تخصيص عائدات الإعلانات مقابل التأثير على خطها التحريري، علماً أن المنابر التي تتجرأ على تجاوز الخطوط الحمراء تعرض نفسها لجميع أنواع الانتقام المالي. وغالباً ما يلجأ مُلاك وسائل الإعلام إلى خفض رواتب الصحفيين لتخفيف ضعف الميزانية كلما حلت بهم صعوبات مالية، مما يدفع أهل المهنة إلى هاوية الرقابة الذاتية.
السياق الاجتماعي والثقافي
إذا كان الإسلام السني هو السائد في باكستان على المستوى الديني، فإن تتميز بتنوع كبير من الناحية اللغوية والثقافية والديموغرافية، وهو ما ينعكس على الصحافة أيضاً. ومع ذلك، تظل وسائل الإعلام في المناطق الريفية معتمدة بشكل كبير على الحكام المحليين أو زعماء القبائل أو حكام المحافظات المهووسين بالدفاع عن الدولة. كما أن وجود جهات غير حكومية في الساحة، مثل الجماعات الأصولية أو المتمردين الانفصاليين، يشكل تهديداً خطيراً لحرية الصحافة، بينما يحول استمرار الأنماط التقليدية في المجتمع دون القدرة على تغطية قضايا معينة.
الأمن
تُعد باكستان من أكثر الدول فتكاً بحياة الصحفيين في العالم، حيث يُقتل في هذا البلد ثلاثة إلى أربعة فاعلين إعلاميين كل عام، علماً أن هذه الجرائم تقع في الغالب على خلفية تحقيقات بشأن قضايا الفساد والاتجار غير المشروع، وذلك في إفلات تام من العقاب. وعلاوة على ذلك، فإن كل من يتجاوز الخطوط الحمراء التي تمليها أجهزة المخابرات قد يجد نفسه عُرضة للتجسس عن كثب، بل وقد يترتب عن ذلك اختطافه واحتجازه لفترات زمنية متفاوتة في سجون الدولة أو في معتقلات غير رسمية. أما من يقع في أيدي الاستخبارات الداخلية فإن صوته قد يصمت إلى الأبد.