ممارسة الصحافة في أوروبا، مهمة محفوفة بالمخاطر على نحو متزايد
امتثالًا للتوصيات التي نشرتها "مراسلون بلا حدود" خلال حملة الانتخابات الأوروبية الأخيرة، أصبحت حرية الصحافة تحتل مكانة بارزة في جدول أعمال المفوضية الأوروبية الجديدة، التي تم تشكيلها في عام 2019. ففي قارة عجوز اهتزت على وقع سلسلة من أخطر أعمال العنف المرتكبة ضد الصحفيين، بما في ذلك حالات اغتيال، حان الوقت لوضع حرية الصحافة في طليعة النضالات. وفي هذا الصدد، ترحب "مراسلون بلا حدود" بخارطة الطريق التي قدمتها فيرا جوروفا، نائبة رئيس المفوضية الأوروبية المعنية بالقيم والشفافية، التي أعلنت نيتها في تعزيز حرية وسائل الإعلام وجعل منصات التواصل الاجتماعي أكثر مسؤولية، مع حماية العملية الديمقراطية. ومع ذلك، فإنه من المؤسف منح حقيبة التوسيع –ذات الأهمية البالغة لدمج غرب البلقان في الاتحاد- للمفوض المجري الذي يمثل أحد أكثر الأنظمة القمعية في الاتحاد الأوروبي.
وإذا كانت المؤسسات الأوروبية الجديدة تعلق أهمية كبيرة على حرية الصحافة، فذلك راجع إلى إدراك مدى خطر الانحراف في هذا الصدد، إذ تأكد التحول نحو اتجاه الاستبداد في المجر، حيث استولى رئيس الوزراء فيكتور أوربان على كامل السلطات إلى أجل غير مسمى تحت ذريعة مكافحة وباء فيروس كورونا. وفي خضم ذلك، أصبح الحكم بالسجن لمدة خمس سنوات مصير كل من ينشر "معلومات كاذبة"، مما يوفر للقضاء المجري، ومعه السلطات السياسية في البلاد، وسيلة ضغط إضافية على وسائل الإعلام المستقلة. وحتى قبل ذلك، كانت الحكومة قد فرضت سيطرتها على معظم وسائل الإعلام من خلال مؤسسة الصحافة، بينما يمثل إسناد الإعلانات الحكومية لوسائل الإعلام المؤيدة للنظام شكلًا آخر من أشكال الضغط. كما أن انتخاب أعضاء من حزب فيدسز الحاكم في المجلس التنظيمي للإعلام ساهم في تعزيز سيطرة الحكومة على قطاع الصحافة. وبالنظر إلى كل هذه العوامل، فإنه لم يكن من المفاجئ تراجع المجر (89) مرتبتين في تصنيف 2020.
وفي بولندا (62؛ -3)، التي فقدت بدورها ثلاثة مراكز هذا العام، بدأ تشديد قبضة الحكومة على القضاء يترك آثارًا سلبية على حرية الصحافة. ذلك أن بعض المحاكم لا تتوانى عن استخدام المادة 212 من القانون الجنائي التي تنص على معاقبة الصحفيين في قضايا التشهير بالسجن لمدة تصل إلى عام كامل. صحيح أن القضاة اكتفوا بفرض غرامات حتى الآن، لكن الضرر الأكبر قد وقع بالفعل، حيث ترسخ مناخ تسوده الرقابة الذاتية.
وفي جنوب أوروبا، تعمل آلة القمع الحكومي لوسائل الإعلام بأقصى طاقتها. ففي بلغاريا (111)، التي لا تزال تراوح مكانها في مؤخرة ترتيب المنطقة، سلطت محاولة إدارة الإذاعة الوطنية توقيف الصحفية الناقدة المتمرسة سيلفيا فيليكوفا الضوء على انعدام استقلالية وسائل الإعلام العامة، مبرزة في الوقت ذاته مدى تحكم بعض القادة السياسيين في خطها التحريري.
ورغم أن الجبل الأسود (105) وألبانيا (84) تعدّان من الدول الطامحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإنهما فقدتا مرتبة ومرتبتين على التوالي بعد عام تميز باحتجاز عدد من الصحفيين تحت ذريعة مكافحة التضليل، ناهيك عن سلسلة الملاحقات القضائية، بما في ذلك المحاكمة المفبركة ضد الصحفي الاستقصائي يوفو مارتينوفيتش في الجبل الأسود. هذا وتمر العديد من الانتهاكات المرتكبة ضد الصحفيين في البلقان وسط إفلات تام من العقاب، كما هو الحال في صربيا (93) - التي فقدت مرة أخرى ثلاث مراتب في التصنيف العالمي، حيث لم يُصدر القضاء أي حكم يدين المتورطين في إحراق بيت الصحفي الاستقصائي ميلان يوفانوفيتش.
وفي المقابل، أحرزت دولتان من دول الاتحاد الأوروبي تقدمًا ملحوظًا في جهود مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين. فعلى خلفية محاكمة الأشخاص الذين يُشتبه في تورطهم في قتل يان كوتشياك وخطيبته مارتينا كوسنيروفا، ارتقت سلوفاكيا (33؛ +2) في الترتيب لأول مرة منذ ثلاث سنوات، بينما بدأ التحقيق في مقتل دافني كاروانا غاليزيا يتقدم أخيرًا في مالطا (81؛ 4)، وإن كان الصحفيون ما زالوا يئنون تحت وطأة ضغوط قضائية شديدة
العنف اللفظي والجسدي، وجهان لعملة واحدة
يجد الصحفيون أنفسهم أيضًا عرضة لعنف الشرطة أو المتظاهرين، كما هو الحال في فرنسا (34؛ -2) إبَّان حراك السترات الصفراء، حيث أصيب العديد من المراسلين بالرصاص المطاطي أو الغاز المسيل للدموع الذي كانت تطلقه قوات التدخل السريع، بينما هاجمهم محتجون غاضبون في بعض الحالات. وقد استفحلت هذه الظاهرة في مختلف أنحاء أوروبا، نتيجة لحملات الكراهية من جهة وفقدان ثقة المواطنين في وسائل الإعلام من جهة أخرى. ففي إسبانيا (29)، تزامن الصعود المقلق لحزب فوكس مع تعرض الصحفيين لاعتداءات من قبل مؤيدي هذا التيار اليميني المتطرف، ناهيك عن الانتهاكات المسجلة في كاتالونيا خلال المسيرات المؤيدة لانفصال الإقليم. وفي كل من النمسا (18؛ -2) وإيطاليا (41؛ +2) واليونان (65)، يهاجم اليمين المتطرف وأنصاره الصحفيين بانتظام خلال قيامهم بتغطية الأحداث الميدانية، وذلك في بيئة تتسم بعداء متزايد تجاه المهاجرين واللاجئين.
بل ويصل الأمر في بعض الحالات إلى مقتل المراسلين أثناء قيامهم بعملهم، كما هو حال الصحفية الإيرلندية الشمالية ليرا ماكي، التي لقيت حتفها جراء إصابتها بالرصاص أثناء تغطية أعمال شغب في ديري، لتصبح بذلك ثالث ضحية في أوساط الصحفيين على صعيد القارة الأوروبية، بعد اغتيال الصحفيين الاستقصائيين يان كوتشياك في سلوفاكيا ودافني كاروانا غاليزيا في مالطا
العنف السيبراني والمراقبة الإلكترونية
تساهم التهديدات عبر الإنترنت وحملات العنف السيبراني والمراقبة الإلكترونية في تفاقم الوضع الهش الذي تتسم به مهنة الصحافة في مختلف أنحاء القارة، بما في ذلك في الدول الأكثر احترامًا للحريات. فقد تنامت ظاهرة التنمر الإلكتروني في النرويج (1)، التي ما زالت تتربع رغم ذلك على صدارة التصنيف العالمي، بينما عاشت كل من فنلندا (2) وإستونيا (14؛ -3) نفس السيناريو. وقد تسبب هذا التهديد الجديد إلى تراجع السويد (4؛ -1) وهولندا (5؛ -1)، وهو التراجع الذي يفسر ارتقاء الدنمارك (3؛ +2)، التي أصبحت الآن ضمن ثلاثي المقدمة. كما تبين أن العنف الإلكتروني الأكثر عدوانية ضد الصحفيين في الدول الاسكندنافية يُنظَم ويُدبَر من قبل الصين وإيران، في حين أن الفاعلين الإعلاميين في منطقة البلطيق يهاجمهم متصيدون روس بالأساس.
هذا ويمثل التشكيك في أهمية حماية سرية المصادر تهديدًا آخر من التهديدات التي تطال الصحافة في أوروبا. ففي ألمانيا (11؛ +2)، اقتُرح نص يجرم التطرق إلى البيانات المفصح عنها ومشروع قانون يسمح للمخابرات الألمانية باختراق أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية أو اعتراض الاتصالات المشفرة دون الحاجة إلى أي غطاء قضائي. أما في رومانيا (48؛ -1)، التي تعيش منذ مدة على وقع العديد من الانتهاكات ضد حرية الإعلام، لا تتردد السلطات أو الشركات أو حتى بعض الأفراد عن التذرع باللائحة العامة لحماية البيانات لتبرير رفض الإفصاح عن معلومات معينة، وهو الأسلوب نفسه الذي يُستخدم في حالات أخرى لتهديد الصحفيين ومتابعتهم قضائيًا بعد نشر مقالات استقصائية عن قضايا مزعجة.
عواقب الأزمة الاقتصادية
أدت الصعوبات الاقتصادية إلى تسريع وتيرة تمركز وسائل الإعلام في جميع أنحاء أوروبا، مما يشكل تهديدًا آخر لوضع الصحفيين. ففي لاتفيا (22؛ +2)، التي تحتفظ بمكانتها الجيدة في التصنيف، قرر المالك الجديد لأقدم محطة تلفزيونية خاصة في البلاد طرد 30 صحفيًا دفعة واحدة. وفي الجمهورية التشيكية (40)، أقدم الملياردير بيتر كيلنر -صاحب أكبر ثروة في البلاد– على شراء الاتحاد المركزي الأوروبي لشركات الإعلام، مما أثار العديد من المخاوف في بلدان أوروبا الشرقية، حيث أصبحت هذه الشركة الاستثمارية العملاقة تسيطر على العديد من القنوات التلفزيونية المؤثرة في الرأي العام بالمنطقة قاطبة.
وفي مختلف أنحاء وسط وشرق أوروبا، باتت وسائل الإعلام السمعية والبصرية منهكة تحت وطأة الهجمات التي تشنها الحكومات باستمرار ضد استقلالية الخط التحريري للمؤسسات الإعلامية التابعة للدولة. وهذا ينطبق بصفة خاصة على الإذاعة الوطنية العامة في بلغاريا (111) والهيئة العامة للتلفزيون في بولندا (62؛ -3) والإذاعة الوطنية العامة في سلوفاكيا (33؛ +2)، علمًا بأن هذه الأخيرة لا تزال ترزح تحت وطأة الضغوط السياسية، رغم التقدم الذي أحرزته البلاد على مستويات أخرى.
هذا ويتدهور الوضع أيضًا في أوروبا الغربية، وذلك بسبب الأساليب الجديدة للإدارة المالية للقطاع السمعي البصري، والتي بالكاد تحترم الحد الأدنى من حرية الإعلام. ففي لوكسمبورغ (17)، سُجل سيناريو غير مسبوق في تاريخ الإذاعة العامة، التي انتقد جزء من صحفييها الحكومة لتدخلها في إدارة المحطة. وفي بلجيكا (12؛ -3)، تظاهر الصحفيون احتجاجًا على خفض الموارد وتقليص الميزانية، وذلك في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الإعلام بالبلاد، مما يفسر تراجعها بثلاث مراتب في التصنيف العالمي.
أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، رهان الاستقرار في منطقة منغلقة على نفسها
لعل ركود بلدان أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى في النسخة الأخيرة من التصنيف العالمي لحرية الصحافة يخفي في ثناياه واقعاً مقلقاً، حيث يثير تمكُن الأنظمة الاستبدادية أو غير المستقرة من وسائل التكنولوجيا الأكثر تطوراً مخاوف عديدة من تكثيف الرقابة على وسائل الإعلام، علماً أن الدول ذات الوزن الثقيل في المنطقة، من قبيل روسيا وتركيا، تُعتبر مثالاً سيئاً في هذا الصدد.
في شتى أنحاء أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، يشدد طغاة المنطقة سيطرتهم على وسائل الإعلام، ومن أبرزهم رجب طيب أردوغان الذي يحكم بقضبة من حديد في تركيا (154؛ +3)، حيث تم تعزيز الرقابة على المنابر الإعلامية، وخاصةً الإلكترونية منها، علماً أن صعود هذا البلد بثلاث مراتب في التصنيف يرجع فقط إلى تأثير عملية حسابية ميكانيكية. أما في الواقع، فإن انخفاض عدد الصحفيين المحتجزين بسبب التعديل القضائي الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ليس سوى انخفاضاً مؤقتًا. ذلك أن تركيا أصبحت أكثر استبدادية من أي وقت مضى، إلى درجة بات معها الصحفيون مُعرَّضين لعقوبة السجن مباشرةً لمجرد نشر معلومة نقلاً عن بيان صحفي صادر عن حزب العمال الكردستاني أو القوات الديمقراطية السورية، أو حتى طرح علامات استفهام على منصات التواصل الاجتماعي حول الرواية الرسمية المتعلقة بالسياسة الأمنية. ولا أدل على ذلك من حبس ستة صحفيين بسبب تغطيتهم للأزمة الليبية، ومن بينهم ثلاثة من موقع Odatv.com، الذي تم إغلاقه أيضًا.
وغير بعيد عن تركيا، تتمادي الجارة روسيا (149) أيضاً في سعيها للسيطرة على شبكة الإنترنت، مستخدمةً في سبيل ذلك وسائل أكثر تطوراً، علماً أن قانون "الإنترنت السيادي" يتيح للسلطات الروسية فصل الشبكة المحلية عن بقية العالم، حيث يتمثل الهدف المعلن في الحماية من التهديدات السيبرانية في حالة نشوب نزاع ما، وهو ما يفرض على شركات الاتصالات إتاحة تدفق المعلومات المتداولة على الشبكة فقط عبر الخوادم التي تسيطر عليها الدولة. وإذا كانت العوائق الفنية تحول دون التنفيذ الفوري، فإن احتمالات تكرار السيناريو الصيني في روسيا تثير العديد من المخاوف، علماً أنه تم اختبار عمليات تعطيل خدمة الإنترنت على نطاق واسع خلال بعض المظاهرات في موسكو أو تلك التي شهدتها جمهورية إنغوشيا.
وفي خضم حملتها القمعية الشرسة، تسببت الهيئة الروسية لمراقبة الاتصالات ووسائل الإعلام – "روسكومنادزور" –في الحجب الكلي أو الجزئي لعدد من المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي، علماً أن هذه الهيئة الرسمية المشرفة على وسائل الإعلام في روسيا تندرج ضمن قائمة منظمة مراسلون بلا حدود للوحوش الرقمية السالبة لحرية الصحافة. وقد طالت الإجراءات القمعية بالأساس منطقة القرم، التي أصبحت بؤرة سوداء على المستوى الإعلامي منذ ضمها إلى سيادة موسكو.
كما سُجِّل إغلاق الإنترنت في تركمانستان (179؛ +1)، التي تقبع في المرتبة ما قبل الأخيرة على التصنيف العالمي، حيث تختزل السلطات شبكة الإنترنت في نسخة خاضعة لرقابة فائقة، علماً أن المستخدمين القلائل يُجبرون على الإدلاء ببطاقة الهوية عندما تطأ أقدامهم مقاهي الإنترنت. وفي طاجيكستان (161)، استأثرت السلطات أيضاً باحتكار الوصول إلى الشبكة في عام 2018، مستعينةً في ذلك بتقنيات حجب جديدة تستطيع أحياناً حتى منع الوصول عبر شبكة خاصة افتراضية (VPN) لبعض وسائل الإعلام المستقلة مثل Asia-Plus. وفي بلد يمر بمرحلة انتقالية مثل كازاخستان (157؛ +1)، فإن دائرة الخدمات المعطلة آخذة في الارتفاع، حيث يتم استهداف راديو أزاتيك، وغوغل، وتيليغرام بشكل مستمر.
مراقبة شاملة
رغم الخطابات الإصلاحية الصادرة عن الرئيس الكازاخستاني الجديد، قاسم جومارت توكاييف، إلا أن السلطات حاولت فرض مراقبة إلكترونية شاملة على المواطنين. ففي الصيف الماضي، اضطر مستخدمو الإنترنت إلى تثبيت "شهادة أمن قومي" تحت طائلة تقييد الوصول إلى الشبكة، حيث قُدمت في البداية على أنها "نسخة تجريبية"، ولكن بمجرد انتهاء مرحلة "الاختبار" قد تبقى الشهادات التي لم يتم حذفها بمثابة فجوة لتعقب حركات المواطنين. ومن جهتها، تفرض روسيا تخزين البيانات الشخصية على الأراضي التابعة لها، التزاماً بسيادتها الوطنية، علماً أن هذا الإجراء يتيح للسلطات مراقبة الصحفيين ومستخدمي منصات التواصل الاجتماعي على حد سواء.
ولا تتوقف أدوات الرقابة في النموذج الروسي عند هذا الحد، بل تشمل أيضاً جيوش المتصيدين التابعة لرجل الأعمال المقرب من الكرملين، إيفغيني بريغوجين، أو تلك التابعة للنظام الحاكم في طاجيكستان، والتي لا تقتصر على نشر معلومات كاذبة، بل تستهدف أيضاً الصحفيين على وجه الخصوص. وحتى في جورجيا (60)، صاحبة الصدارة في المنطقة، فقد أقدمت إدارة فيسبوك على إغلاق المئات من الصفحات الوهمية التي كانت تُقدِم نفسها على أنها صفحات رسمية لوسائل إعلامية، بينما كانت في واقع الأمر حسابات تهدف إلى نشر معلومات كاذبة في إطار حملة تضليلية تخدم أهداف النظام الحاكم. وعموماً، سُجل تزايد في الهجمات الإلكترونية ضد وسائل الإعلام التي تزعج الحكومات، كما هو الحال في قيرغيزستان (82؛ +1)، التي تزخر بقدر من التعددية يجعل منها حالة استثنائية في آسيا الوسطى. ففي يناير/كانون الثاني الماضي، رفضت السلطات التحقيق في سلسلة هجمات حجب الخدمة التي طالت عدة مواقع، من بينها موقع Factcheck.kg الإخباري، الذي يُرجَّح أن يكون قد استُهدف في إطار حملة انتقامية رداً على مقال استقصائي نشره حول قضية فساد كبيرة.
صعوبة الوصول على المعلومات
سواء تعلق الأمر بتمديد مهلة الرد من الإدارات العمومية أو بإدراج وثائق رسمية في قائمة المستندات "السرية" لتقييد الوصول إليها أو رفض منح بطاقات الاعتماد لتغطية أحداث معينة، فإن الصحفيين المستقلين يعانون الأمرّين في سعيهم للحصول على معلومات رسمية في معظم دول المنطقة، كما هو الحال في أذربيجان (168؛ -2) أو بيلاروسيا (153)، حيث تزداد وتيرة منع وسائل الإعلام من حضور الفعاليات العامة. وفي قيرغيزستان، أصبح من المألوف مناقشة الموضوعات المهمة خلف أبواب مغلقة، سواء في اللجان البرلمانية على سبيل المثال، أو في ظل شروط تُقيِد حضور الصحفيين لتغطية بعض الأحداث، مثل المحاكمات التي تُعقَد في قاعات ضيقة للغاية.
وعلاوةً على ذلك، فإن رفض اعتماد الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام الأجنبية أو التهديد بإلغاء بطاقاتهم يعيق وصولهم إلى المعلومات، بقدر ما يشكل أرضاً خصبة للرقابة الذاتية. وفي كازاخستان وطاجيكستان، أو حتى في أوزبكستان (156)، يطال هذا النوع من الإجراءات التعسفية بشكل خاص مكتب إذاعة أوروبا الحرة المُموَّلة أمريكياً، وإن كانت أوزبكستان قد ارتقت في التصنيف أربع مراتب بفضل الإصلاحات التي تم تنفيذها منذ وفاة الرئيس إسلام كريموف في عام 2016. كما يجد بعض الصحفيين الأجانب صعوبةً متزايدة في الحصول على بطاقة الاعتماد للعمل في روسيا، رغم أن الإجراءات لم تتغير رسميًا، علماً أن الصحفيين الروس العاملين لحساب وسائل إعلام أجنبية باتوا يواجهون خطر اتهامهم بـ"العمالة لجهات أجنبية"، وهي التهمة التي عادةً ما تُنسب إلى العديد من وسائل الإعلام والمؤسسات الرئيسية المَعنية بالدفاع عن حرية الصحافة.
شعور متزايد بالإفلات من العقاب
منذ عام 2000، قُتل ما لا يقل عن 37 من الإعلاميين الروس بسبب أنشطتهم الصحفية. وكما هو الحال في بلدانٍ أخرى، لا تُسفر التحقيقات عن أية معطيات ملموسة في الغالبية العظمى من الحالات، حيث لا تُكشَف أبدًا هوية القتلة والجهات المدبرة لتلك الجرائم. وفي هذا السياق، يتخذ خطاب الكراهية أبعاداً أكثر عنفاً، حيث دعا حاكم جمهورية تشوفاشيا، في روسيا، علناً إلى استهداف الصحفيين الناقدين. وفي الشيشان، البؤرة السوداء على المستوى الإعلامي، تم الاعتداء على إيلينا ميلاتشينا، صحفية نوفايا غازيتا، وفي اليوم التالي تعرضت لحملة عنيفة من قنوات تلفزيونية محلية تبرر ما تعرضت له من عنف بل وتدعو إلى قتلها، وسط إفلات تام من العقاب.
أما تقدم أوكرانيا (96) بست مراتب، محققةً أفضل ارتقاء في المنطقة، فيعود بالأساس إلى تأثير ميكانيكي مرتبط أكثر بالتغييرات التي طرأت على جدول التصنيف عموماً. ذلك أن الآمال التي أثارها انتخاب فولوديمير زيلنسكي رئيسًا للدولة لا تزال بعيدة عن التحقق على أرض الواقع، في ظل الاستقطاب المستمر داخل المشهد الإعلامي على نحو يعكس واقع المجتمع الأوكراني، بينما يشجع الإفلات من العقاب على استمرار ظاهرة العنف الجسدي ضد الصحفيين التي أصبحت متنامية. وفي هذا الصدد، تستهدف بعض الجماعات القومية بالأساس وسائل الإعلام المستقلة مثل بيلينغكات، التي أصبح صحفيوها يتعرضون لتهديدات بالقتل. وفي أرمينيا (61)، باتت المضايقات القضائية تحل تدريجياً محل العداء تجاه الصحفيين، الذي كان يُترجم في وقت سابق بعنف جسدي مباشر، علماً أن التلاعب المقلق بالإجراءات عادةً ما يترتب عنه تجريم لمهنة الصحافة واستنزاف لموارد وسائل الإعلام، مما يَحول دون قيامها بعملها الإخباري على الوجه الأكمل.
وحتى الدولة نفسها عادةً ما تكون هي الجهة الراعية للممارسات السالبة للحرية، إذ غالباً ما تشكل التشريعات الغامضة وتطبيقها بشكل انتقائي ذريعةً للحكم على الصحفيين والمُدوِّنين بتهمة التطرف أو انتهاك سيادة الأراضي الوطنية، كما هو الحال في روسيا، حيث أوردت السلطات، الصحفية سفيتلانا بروكوبييفا، على القائمة الرسمية للأشخاص "الإرهابيين" بسبب تقرير إذاعي لا أقل ولا أكثر. وفي آسيا الوسطى وأذربيجان، تلجأ السلطات إلى قوانين "تُحرِض على الكراهية" سواء على الصعيد الاجتماعي أو الديني أو الطائفي.
تجاوزات بالجملة في خضم مكافحة التضليل
مازالت معظم دول المنطقة تشهد مشاكل مرتبطة باستقلالية وسائل الإعلام، التي يعكس خطها التحريري مصالح مُلاكها. ففي مولدوفا (91)، تراجع نفوذ الإمبراطورية الإعلامية التي بناها الملياردير وزعيم الحزب الديمقراطي السابق، فلاديمير بلوتنيوك، إذ سرعان ما حلت محلها وسائل إعلام جديدة تابعة لمنافسه الموالي لروسيا، حزب الاشتراكيين. وفي هذا السياق، تجد الدول الفرصة مواتيةً لإصدار قوانين تحمل في طياتها خطورة بالغة على حرية الصحافة، مستغلةً في ذلك النفوذ الكبير للنخب الأوليغارشية الموالية للأنظمة أو المساندة للمعارضة، وما يصاحب ذلك من حملات تضليلية. ففي أوكرانيا، يهدف مشروع قانون إلى إدخال تبعات جنائية على الصحفيين في حال إدانتهم بتهمة "التضليل" وإنشاء هيئة جديدة ذات سلطات تقديرية لتُعنَى بالتحقق من صحة المحتويات الصحفية. وباسم الحرب ضد الأخبار الزائفة والحفاظ على المصلحة الوطنية، يتم اعتقال مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي في أرمينيا، حيث تحاول بعض الوزارات أيضًا تمرير تشريعات تصب في هذا الاتجاه دون مناقشة مسبقة مع فعاليات المجتمع المدني أو ممثلي وسائل الإعلام.
استقلال اقتصادي هش
بينما تكافح العديد من وسائل الإعلام المستقلة من أجل بقائها صامدةً أمام الظروف الاقتصادية الخانقة التي تعيق نموها، تواجه الصحافة الاستقصائية العديد من الصعاب والمشاكل، بسبب نقص الموارد. وإذا كانت هذه المنابر الإعلامية محرومة عموماً من الإعانات العامة وسوق الإعلانات على حد سواء، ناهيك عن صِغر نطاق انتشارها، فإنها تُستهدف في بيلاروسيا أيضًا من خلال غرامات متتالية، بينما يحظر القانون الأوزبكي على وسائل الإعلام المستقلة تلقي إعانات من الخارج، علماً أن المعلنين المحليين يتفادون التعامل معها خوفاً من دفع ثمن غضب السلطات عليهم. وفي مولدوفا، يسيطر بعض السياسيين أو أقاربهم على سوق الإعلانات، علماً أن كل هذه القيود تزيد من إضعاف وضع الصحفيين في وسائل الإعلام تلك، إذ غالباً ما يحصلون على أجور أقل بكثير من تلك التي يتقاضاها نظراؤهم العاملون في وسائل الإعلام الحكومية.